سورة الأعراف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


قلت: من قرأ: {خالصة}؛ بالرفع، فخبر بعد خبر، أو خبر عن مضمر، ومن قرأ بالنصب، فحال.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم: {مَن حرَّم زينةَ اللهِ}؛ وهي ما يتجمل به من الثياب وغيرها، {التي أخرج لعباده} من النبات؛ كالقطن والكتان، أو الحيوان؛ كالحرير والصوف والوبر، والمعادن؛ كالدروع والحلي، {و} قل أيضًا: من حرم {الطيبات مِنَ الرزقِ} أي: المستلذات من المآكل والمشارب، ويدخل فيها المناكح؛ إذ هي من أعظم الطيبات. وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات: الإباحة؛ لان الاستفهام للإنكار، وبه رد مالك رحمه الله على من أنكر عليه من الصوفية، وقال له: اتق الله يا مالك؛ بلغني أنك تلبس الرقيق، وتأكل الرقاق، فكتب إليه بالآية.
قال تعالى: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا}، ويشاركهم فيها الكفار، ويوم القيامة تكون {خالصة} لهم دون غيرهم، {كذلك نُفصّل الآياتِ} أي: كتفصيلنا هذا الحكم نُفصل سائر الأحكام {لقوم يعلمون} فينزلونها في محلها بخلاف الجهال.
{قل إنما حرَّم ربي الفواحشَ}؛ وهي ما تزايد قبحها من المعاصي، وقيل: ما يتعلق بالفروج، {ما ظهرَ منها وما بَطَنَ} أي: جهرها وسرها، أو ما يتعلق بالجوارح الظاهرة والعوالم الباطنية وهي القلوب، {والإثم}؛ كقطع الرحم، أو عام في كل ذنب، {والبغيَ}؛ وهو الظلم؛ كقطع الطريق والغصب، وغير ذلك من ظلم العباد، أو التكبر على عباد الله؛ وقوله: {بغير الحق}: تأكيد له في المعنى. {وأن تُشركوا الله ما لم يُنزل به سُلطانًا} أي: حجة على استحقاق العبادة، وهو تهكم بالمشركين، وتنبيهٌ على تحريم ما لم يدل عليه برهان. {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} من الإلحاد في صفاته، والافتراء عليه؛ كقولهم: {وَاللهُ أَمَرَنَا} [الأعراف: 28]، و{لَوْ شَآءَ اللهُ مَآ أَشْرَكْنَا} [الأنعَام: 148].
{ولكل أمة أجل} أي: مدة ووقت لنزول العذاب بها إن لم يؤمنوا، وهو تهديد لأهل مكة، {فإذا جاء أجَلُهم} أي: انقرضت مدتهم، أو دنى وقت هلاكهم، {لا يستأخرون ساعةَ} عنه {ولا يستقدمون} أي: لا يتأخرون ولا يتقدمون عنه أقصَر وقت، أو لا يطيقون التقدم والتأخر لشدة الهول، وجعل بعضهم: {ولا يستقدمون} استئنافًا؛ لأن الأجل إذا جاء لا يتصور التقدم، وحينئذٍ يوقف على: {ساعة}، ثم يقول: ولا هم يستقدمون عنه قبل وصوله.
الإشارة: قال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه: زينة الله التي أظهر لعباده هي لباس المعرفة، وهو نور التجلي، والطيبات من الرزق هي حلاوة الشهود. اهـ. وهي لمن كمل إيمانه وصِدقه في الحياة الدنيا، وتصفو له إلى يوم القيامة، فهي حلال على أهل التجريد؛ يتمتعون بها في الدارين، وإنما حرّم عليهم ما يشغلهم عن ربهم من جهة الظاهر، وما يقطعهم عن شهوده من جهة الباطن، وسوء الأدب مع الله، والتعرض لعباد الله، والشرك بالله؛ بأن يشهدوا معه سواه، وأن يقولوا على الله ما يوهم نقصًا أو خللاً في أنوار جماله وسناه.
والله تعالى أعلم.
ثم إن العباد والزهاد وأهل البداية من المريدين السائرين ينبغي لهم أن يزهدوا في زينة الدنيا وطيباتها؛ لئلا تركن إليها نفوسهم، فيثبط سيرهم، وأما الواصلون فهم مع الله، لا مع شيء سواه، يأخذون من الله بالله، ويدفعون بالله، وقد اتسعت دائرة علمهم، فليسوا مع لباس ولا أكل ولا شرب ولا جوع ولا شبع، هم مع ما يبرز في الوقت من المقدورات. والله تعالى أعلم.


قلت: {إما}: شرط مؤكد بما ذكره بحرف الشك؛ للتنبيه على أن إتيان الرسل جائز، غير واجب، كما ظنه المعتزلة، وجوابه: {فمن اتقى...} إلخ، وإدخال الفاء في الجواب الأول دون الثاني؛ للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا بني آدم} مهما {يأتينكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي} الدالة على توحيدي ومعرفتي، {فمن اتَّقَى} الشرك والتكذيب، و{أصلح} فيما بيني وبينه، منكم، بالعمل الصالح، {فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}. {والذين كذّبوا بآياتنا واستكبرُوا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، فمِن كمال الإيمان: أن يقدر الإنسان نفسه أن لو كان في زمان كل رسول، لكان أول من تبعه، ولكان من خواص أصحابه، هكذا يسير بعقله مع كل رسول من زمان آدم عليه السلام إلى مبعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد جعل الله لكل نبي خلفاء يخلفونه في تبليغ أحكامه الظاهرة والباطنة، وهم العلماء الأتقياء، والأولياء العارفون الأصفياء، فمن أراد أن يكون ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فليتبع علماء أهل زمانه في الشريعة، وأولياء أهل عصره في تربية الحقيقة. وبالله التوفيق.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {فمن أظلمُ ممن افترى على الله كذبًا}؛ بأن نسب إليه الولد والشريك، {أو كذَّب بآياته} التي جاءت بها الرسل من عنده، أي: لا أحد أظلم منه، أو تَقوَّل على الله ما لم يقله، وكذّب بما قاله، {أولئك ينالُهم نصيبُهم من الكتاب} أي: يلحقهم نصيبهم مما كتب في اللوح المحفوظ؛ من الأرزاق والآجال، {حتى إذا} انقضت أعمارهم و{جاءتُهم رسلُنا يَتوفَّونهم} أي: يتوفون أرواحهم، {قالوا} لهم توبيخًا: {أين ما كنتم تدّعون من دون الله} أي: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله؛ لتدفع عنكم العذاب؟ {قالوا ضلُّوا عنا}؛ غابوا عنا {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}، اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه، وندموا حيث لم ينفع الندم، وقد زلت بهم القدم.
الإشارة: كل من أعرض عن خصوص أهل زمانه واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، ينال نصيبه من الدنيا الفانية وما قُسِم له فيها؛ فإذا جاءت منيته ندم وتحسر، وقيل له: أين ما تمتعت به وشغلك عن مولاك؟ فيقول: قد غاب ذلك وفنى وانقضى، وكأنما كان برقًا سَرَى، أو طَيفَ كَرَى، والدهر كله هكذا؛ لمن سدد نظرًا، وعند الصباح يحمد القوم السُّرَى، وستعلم، إذا انجلى الغبار، أفرس تحتك أم حمار.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه: «لا تَخدَعَنَّكُم زخارفُ دُنيا دَنِيَّة، عن مَراتب جَنَّاتٍ عَالِية؛ فكان قد كِشفَ القِناع، وارتفع الارتياب، ولاقى كل امرىءٍ مستقَرِّه، وعرف مثواه ومُنَقَلَبه» وفي حديث آخر: «مَن بدأ بَنَصِيبه من الدنيا فَاتَه نصيبُه من الآخرة، ولم يُدرك منها ما يريد، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة، وصل إليه نصيبه من الدنيا، وأدرك من الآخرة ما يريد».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8